سورة الفتح - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {لقد رَضِي اللّهُ عن المؤمنين} وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم بقوله: {إن الذين يبايعونك...} الآية، وبهذه الآية سميت بيعة الرضوان و{إذ} منصوب ب {رَضِيَ}، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة، و{تحت الشجرة}: متعلق به، أو: بمحذوف، حال من مفعوله، أي: رَضِيَ عنهم وقت مبايعتهم لك {تحت الشجرة} أو: حاصلاً تحتها.
رُوي: أنه صلى الله عليه وسلم لمّا نزل الحديبية، بعث خِراش بن أمية الخزاعي، رسولاً إلى أهل مكة، فَهَمُّوا به، وأنزلوا عن بعيره، فمنعته الأحابيش، فلما رجع دعا بعُمر ليبعثه، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحدٌ يمنعني، ولكن عثمان أعزّ بمكة مني، فبعث عثمان إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه صلى الله عليه وسلم جاء زائراً إلى البيت، مُعظِّماً لحُرمته، ولم يُرد حرباً، فوقروه، وقالوا: إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل، فقال: ما كنت لأطوف قبلَ أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتبس عندهم، فأُرجِفَ بأنهم قتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا الناسَ إلى البيعة، فبايعوه تحت الشجرة- وكانت سمرة وقيل: سِدرة- على أن يُقاتلوا قريشاً، ولا يفرُّوا، وأول مَن بايع أبو سنان الأسدي، واسمه: وهب بن عبد الله بن محصن، ابن اخي عكاشة بن مِحصن. وقيل: بايعوه على الموت عنده، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» وقال أيضاً: «لا يدخل النارَ أحد ممن بايع تحت الشجرة» وكانوا ألفاً وخمسمائة وخمسةً وعشرين، وقيل: ألفاً وأربعمائة. والحديبية بتخفيف الياء، قاله في المصباح، وهي على عشرة أميال من مكة.
{فعَلِمَ ما في قلوبهم} من الإخلاص، وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه. وقال القشيري: عِلِمَ ما في قلوبهم من الاضطراب والتشكيك، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، فبشّر أصحابه، فلمام صُدُّوا خامر قلوبَهم شكٌّ، {فأنزل} اللّهُ {السكينةَ عليهم} أي: اليقين والطمأنينة، فذهب عنهم. ثم قال: وفي الآية دليلٌ على أنه قد يخطر ببال الإنسان خواطر مشكِّكة، وفي الرَّيب مُوقعة، ثم لا عبرة، فإن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً ألزم التوحيد قلبَه، وقارن التحقيق سِرَّه، فلا يضرُّه كيدُ الشيطان. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ...} [الأعراف: 201] الآية.
{فأنزل السكينة عليهم} أي: الطمأنينة والأمن، وسكون النفس، بالربط على قلوبهم، {وأثابهم} أي: جازاهم {فتحاً قريباً} وهو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما تقدّم. {ومغانمَ كثيرةً يأخذونها} وهي مغانم خيبر، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها بينهم، {وكان الله عزيزاً} منيعاً فلا يغالب، {حكيماً} فيما يحكم به فلا يعارَض.
{وعَدَكُمْ اللّهُ مغانِمَ كثيرةً تأخذونها} هو ما فتح على المؤمنين، وغنموه مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة. والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان. {فعجَّلَ لكم هذه} المغانم، يعني مغانم خيبر، {وكفَّ أيديَ الناس عنكم} أي: أيدي أهل خيبر وحُلفاءهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا، وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح، {ولِتكون} هذه الكفَّة {آيةً للمؤمنين} وعبرةً يعرفون أنهم من الله بمكان، وأنه ضامن لنصرتهم والفتح عليهم، أو: لتكون آية يعرفون بها صدقَ الرسول صلى الله عليه وسلم من وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية بما ذكر من المغانم، ودخول مكة، ودخول المسجد الحرام آمنين. واللام إما متعلقة بمحذوف مؤخر، أي: وليكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف، وإما يتعلق بعلة أخرى محذوفة من أحد الفعلين، أي: فعجَّل لكم هذه وكفَّ أيدي الناس عنكم لتغنموها ولتكون... إلخ، {ويهديكم صراطاً مستقيماً} أي: يزيدكم بصيرةً ويقيناً وثقةً بوعد الله حتى تثقوا في أموركم كلها بوعد الله تعالى.
قال الثعلبي، ولمّا فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم حصونَ خيبر سمع أهل فدك ما صنع عليه السلام بأهل خيبر، فأرسلوا له يسألونه أن يُسيرَهم ويحقن دماءهم، ويخلُّوا له الأموال، ففعل، ثم صالح أهلَ خيبر، على أن يعملوا في أموالهم على النصف، على أنه إن شاء أجلاهم متى شاء، ففعلوا، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين، وكانت فدك خالصة له صلى الله عليه وسلم، إذ لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، ولما اطمأن صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب الحارث اليهودية شاة مصليَّة مسمومة، أكثرت في ذراعها السم، فأخذ صلى الله عليه وسلم الذراع، فأكل منه، ثم كلّمه، فأمسك، وأكل معه بشر بن البراء بن معرور، فمات من ساعته، وسَلِمَ صلى الله عليه وسلم حتى قام عليه بعد سنتين، فمات به، فجُمع له بين الشهادة والنبوة.
ثم قال تعالى: {وأُخرى لم تَقْدِروا عليها} أي: وعجّل لكم مغانم أخرى، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين. ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجَوْلة. {قد أحاط اللّهُ بها} قَدَرَ عليها واستولى، وأظهركم عليها، وهي صفة أخرى ل {أخرى} مفيدة لسهولة بأسها بالنسبة إلى قدرته تعالى، بعد بيان صعوبة مَنَالها بالنظر إلى حِذرهم. ويجوز في {أُخرى} النصب بفعل مضمر، يُفسره {قد أحاط الله بها} أي: وقضى الله أخرى، ولا ريب في أن الإخبار بقضاء إياها بعد اندراجها في جملة الغنائم الموعودة بقوله: {وعدكم الله مغانم كثيرة} فيه مزيد فائدة، وإنما الفائدة في بيان تعجيلها وتأخير هذه.
وقال ابن عباس والحسن ومقاتل: {وأخرى لم تقدروا عليها} هي فارس والروم. وقال مجاهد: ما فتحوا حتى اليوم. اهـ. قلت: بل إلى يوم القيامة وهذا أظهر الأقوال أي: لم تقدروا على أخذها الآن وستأخذونها، {وكان الله على كل شيء قديراً} لأن قدرته تعالى عامة التعلُّق، لا تختص بشيء دون شيء.
قال ابن عرفة: مذهبنا أن المستحيل لا يصدق عليه شيء، فيبقى النظر: هل يطلق على الواجب شيء، لقوله تعالى: {قُلْ أَىُّ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] أم لا يطلق عليه شيء؟ فإن قلنا: يصلح الإطلاق وجب التخصيص في الآية، فيكون عامّاً مخصوصاً، وإن قلنا بعدم صحته، فيبقى النظر: هل المراد بالقدرة الإحداث أو الصلاحية، فإن أريد الإحداث فهي مخصوصة، وإن أريد الصلاحية فهو عام غير مخصوص. اهـ.
الأشارة: مشايخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرسول، فيقال على طريق الإشارة: لقد رضي الله عن المؤمنين المتوجهين، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة، تحت ظل شجرة همتك، فعَلِمَ ما في قلوبهم من الصدق، فأنزل السكينة عليهم، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرياضة، وأثابهم فتحاً قريباً، وهو الوصول إلى حضرة العيان، ومغانم كثيرة؛ فتوحات ومكاشفات، وأسرار، وترقيات كثيرة، إلى ما لا نهاية له، يأخذونها. ووعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح، من الرجوع إلى البقاء وبقاء البقاء، والتوسُّع في المقامات، والترقِّي في معارج المكاشفات، فعَجَّل لكم هذه، هو مقام الفناء، وكفَّ أيدي القواطع عنكم، لتتوجهوا إلى مولاكم، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير، يهتدون بهديكم، ويهديكم صراطاً مستقيماً: طريق الوصول إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، وأخرى لم تقدروا عليها في الدنيا، ادخرها لكم يوم القيامة، وهو المُقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال الورتجبي: {لقد رضي الله عن المؤمنين} أي: رَضِيَ عنهم في الأزل، وسابق علم القدم، ويبقى رضاه إلى الأبد؛ لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية، لا تتغير بتغيُّر الحدثان، ولا بالوقت والزمان، ولا بالطاعة والعصيان، فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية، ولا بالشهوات، لأن أهل الرضا محروسون برعايته، لا تجري عليهم نعوت أهل البُعد، وصاروا متصفين بوصف رضاه، فرضوا عنه كما رضي عنهم، قال تعالى: {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [المائدة: 119] وهذا بعد قذف نور الأنس في قلوبهم بقوله: {فأنزل السكينة عليهم} فسكنت قلوبهم إليه، واطمأنت به؛ لِتنزُّل اليقين. اهـ.
قلت: هذا لمَن تحققت محبوبيته ممن رسخت قدمه في شهود الحق، واطمأن به، وأما قبل هذا فالأمر مُبهم.
قال اللجائي، في كتابه قطب العارفين: وإياك أن تعتقد أنّ في الناس شرّاً منك، وإن كان عاصياً وأنت مطيع، فإنّ الأمر يحدث بعد الأمر، وسِرُّ الله تعالى في خلقه غامض، لا يُدرى مَن يبوء بالشقاوة، ولا مَن يفوز بالسعادة، وقد يتلقى العبدُ رضا الله تعالى بحسنة واحدة، ويتلقى سخطه بذنب واحد، فإنَّ أمر الله خفي في غموض المشيئة... إلخ.


{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ...}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولو قاتلكم الذين كفروا} من أهل مكة ولم يُصالحوا، أو من خلفاء خيبر، الذين جاؤوا لنصرهم {لَوَلَّوا الأدبارَ} منهزمين {ثم لا يجدون وليّاً} يلي أمرهم، {ولا نصيراً} ينصرهم. {سُنَّةَ الله التي قد خَلَتْ من قبل} مصدر مؤكد، أي: سنَّ الله غلبة أنبيائه سنة ماضية، وهو قوله: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] {ولن تجد لسنة الله تبديلاً} تغيُّراً.
{وهو الذي كفَّ أيديَهم عنكم} أي: أيدي كفار أهل مكة {وأَيْدِيَكم عنهم} عن أهل مكة {ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} أي: أقدركم وسلَّطكم عليهم، يعني: قضى بينهم وبينكم المكافَّة والمحاجزة بعدما خوّلكم الظفر عليهم والغلبة، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، يطلب غرة بالمسلمين، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد على جند، فهزمهم، حتى أدخلهم حيطان مكة، ثم عاد ثانياً فهمزمه، ثم عاد فهزمه، هكذا نقله الثعلبي وغيره. فانظره مع ما في الاكتفاء للكلاعي: أن خالداً كان مع المشركين في الحديبية، وإنما أسلم بعد الحديبية قبل الفتح، وكان في السنة الثامة، والحديبية في السادسة، والذي ذكر النسفي أنه عليه السلام بعث مَن هزمهم، ولم يسمه، وهزمُ خالد لبعض قريش إنما كان في الفتح، لا في الحديبية، فلعل الراوي غلط. وقال أنس: إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر، عام الحديبية، ليقاتلوا المسلمين، فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم سِلْماً، فأعتقهم، فنزلت الآية.
ووجه المنّة في كفّ أيدي المؤمنين عن الكافرين: ما ذكر بعد من قوله: {ولولا رجال مؤمنون}... الآية، أو: ما تطرق بسببه من الصلح وانقيادهم إليه، فإنهم لما رأوا أصحابهم انهزموا أذعنوا للصلح، وقال القشيري: بعد أن اضطرهم المسلمون إلى بيوتهم، أنزل الله هذه الآية يمنُّ عليهم، حيث كفّ أيديَ بعضهم عن بعض، عن قدرة من المسلمين، لا عن عجز، فأما الكفار فكفُّوا أيديهم رُعباً وخوفاً، وأما المسلمون فنهياً من قِبل الله، لما في أصلابهم من المؤمنين. اهـ. {وكان الله بما تعملون} من مقاتلتهم وهزمهم أولاً، والكفّ عنهم ثانياً، لتعظيم بيته الحرام، وقرأ البصري بياء الغيب، أي: بما يعمل المشركون {بصيراً} فيجازي كُلاًّ بما يستحقه.
{هم الذين كفروا وصدُّوكم عن المسجد الحرام} {و} صدُّوا {الهدْيَ} حال كونه {معكوفاً} أي: محبوساً عن {أن يبلغ مَحِلَّهُ} أي: مكانه الذي يحلّ به نحره، وهو منىً وكان صلى الله عليه وسلم ساق سبعين بدنة، فلما صُدّ، نَحَرَها بموضعه، وبه استدل مَن قال: إنّ المحصَر ينحر هداياه بموضعه، وروي أن خيامه صلى الله عليه وسلم كانت في الحل، ومصلاّه في الحرم، وهناك نحرت هداياه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يُقال لمَن سبقت لهم العناية، وحَفّت بهم الرعاية: لو قاتلكم الذين كفروا من النفس الأمّارة، والشيطان، والهوى، وسائر القواطع، لَوَلُّوا الأدبار، ثم لا يجدون تسلُّطاً عليكم أبداً، سُنَّة الله التي قد خلت فيمن توجه إليه بصدق الطلب، ودخل تحت تربية الرجال، فإن همتهم دائرة عليه، ولن تجد لسنَّة الله تبيدلاً. وهو الذي كفّ أيدي الأعداء من القواطع عنكم، وكَفّ أيديكم عنهم، من بعد أن أظفركم عليهم، فإنّ النفس إذا تعذّبت واطمأنت وجب الكفُّ عن مجاهدتها، ووجب البرور بها، وتصديقها فيما تحدثه، وكذا سائر القواطع تجب الغيبة عنها، وعدم الالتفات إليها غيبةً في الله واشتغالاً بشهوده. وقيل لبعضهم: متى ينتهي سير الطالبين؟ قال: الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا. وأيضاً: لا تجتمع المجاهدة مع المشاهدة، فإذا تحققت المشاهدة فلا مجاهدة. هم الذين كفروا من النفوس المتمردة، والهوى، وصدُّوكم عن مسجد الحضرة، والهديَ معكوفاً، وحبسوكم عن التقرُّب إلى الله بالنفس والمال أن يبلغ محله، بأن تمنعكم من إعطائه، أو تُشِيبُه بما يُفسده من الرياء والعجب، لئلا تبلغ محل الإخلاص.
ثم ذكر حكمة منعهم من دخول مكة عام الحديبية، فقال: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
قلت: {أن تطؤوهم}: بدل اشتمال من رجال ونساء، ومن ضمير {تعلموهم} وبغير متعلق بتطؤوهم، وجواب {لولا} محذوف، أغنى عنه جواب لو أي: لما كفّ أيديكم عنهم.
يقول الحق جلّ جلاله: {ولولا رجالٌ مؤمنون ونساء مؤمناتٌ} بمكة، ضَعُفوا عن الهجرة {لم تعلموهم} لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم مع المشركين، {أن تطأوهم بغير علمٍ} أي: غير عالِمين بهم {فتُصيبَكم منهم معرَّة} أي: مشقة ومكروه. وفي تفسير المحلي المعرة بالإثم نظر، مع فرض عدم العلم، إلا أن يُحمل على صورة الإثم، وهو الخطأ، وفيه الكفارة. والمعرة: مفعلة من: عراهُ: إذا دهاه ما يكرهه وشقّ عليه، وهو هنا الكفارة إذا قتله خطأ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلو بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز، والإثم إذا قصد قتله. والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة.
والحاصل أنه كان بمكة قوم مسلمون مختلطون بالمشركين، غير متميّزين منهم، فقيل: ولولا كراهة أن تُهلكوا ناساً من المؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فتُصيبكم بإهلاكهم مشقة ومكروه، ولما كففنا أيديكم عنهم، ولسلطانكم عليهم.
وكان ذلك الكفّ {ليُدخل اللّهُ في رحمته} أي: في توفيقه لزيادة الخير والطاعة لمؤمنيهم، أو: ليدخلهم في الإسلام مَن رغب فيه من مشركيهم {مَن يشاء} زيادته أو هدايته، فاللام متعلقة بمحذوف، تعليل لما دلت عليه الآية، وسيقت له، من كفّ الأيدي عن أهل مكة، والمنع من قتلهم، صوناً لما بين أظهرهم من المؤمنين. {لو تزيّلوا} أي: تفرّقوا وتميّز المسلمون من الكافرين، {لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً} بقتل مقاتلهتم، وسبي ذراريهم. ويجوز أن يكون: {لو تزيّلوا} كالتكرير ل لولا..؛ لمرجعهما لمعنى واحد ويكون {لعذَّبنا...} إلخ، هو جواب لولا والتقدير: ولولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمناتٍ من غير علم، ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف.
الإشارة: إذا اختلط أهل الانتقاد مع أهل الاعتقاد، لا يعم البلاء المعدّ لأهل الانتقاد، ولو تزيّلوا لعذبنا المنكرين عذاباً أليماً، وكذلك إذا اختلط الفجّار مع الأبرار، وغلب جمع الأبرار، لا يعم البلاء، ويُصرف عن الجميع، فلو تزيّل الفجّار لعُذبوا عذاباً أليماً.
قال القشيري: قد تكون في النفس أوصاف مستحسنة، تليق بالفيض الألهي، مع أوصاف مذمومة، فلو سلطناكم على إهلاكها بالمرة، لفاتكم ما فيها من الأوصاف الحسنة، فتُصيبكم معرة، ليدخل الله في رحمته بالوصول إلى حضرته من يشاء من النفوس، بتصفية ما فيها من الرذائل. لو تزيّلوا تميز ما يصلح قلعه، كالكبر، والشر، والحرص والحقد، أو ما يصلح تبديله، كالبخل بالسخاء، والحرص بالقناعة، والغضب بالحلم، والجبن بالشجاعة، والشهوة بالعفة، لعذَّبنا النفوس المتمردة عذاباً أليماً، بإهلاكها بالكلية. بالمعنى.


يقول الحق جلّ جلاله: واذكر {إِذ جعلَ الذين كفروا} من قريش أي: ألقوا {في قلوبهمُ الحميِّة} أي: الأنفَة والتكبُّر، أو: صيّروا الحميةَ راسخة في قلوبهم {حميةَ الجاهليةِ} بدل، أي: حَميّة الملة الجاهلية، أو الحميّة الناشئة من الجاهلية، ووضع الموصول موضع ضميرهم، إذ تقدّم ذكرهم، لذمِّهم بما في حيز الصلة، وتعليل الحكم به. والجعل بمعنى الإلقاء، فلا يتعدّى إلى مفعولين، أوك بمعنى التصيير، فالمفعول الثاني محذوف، كما تقدّم. و{الذين}: فاعل، على كل حال. {فأنزل اللّهُ سكينتَه على رسوله وعلى المؤمنين} أي: أنزل في قلوبهم الطمأنينة والوقار، فلم يتضعضعوا من الشروط التي شرطت قريش.
رُوي: أن رسول الله لمَّا نزل الحديبية بعثت قريشٌ سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العُزَّى، ومِكْرَز بن حفص، على أن يعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، ففعل ذلك، وكتب بينهم كتاباً، فقال صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل وأصحابه ما نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه رسولُ الله أهلَ مكة» فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمدٌ بن عبد الله أهلَ مكة، فقال صلى الله عليه وسلم: «اكتب ما يريدون، فأنا أشهد أنّي رسول، وأنا محمد بن عبد الله» فهمّ المسلمون أن يأبَوا ذلك، ويبطشوا بهم، فأنزل الله السكينة عليهم، فتوقّروا وحلُموا. وفي رواية البخاري: فكتب عليّ رضي الله عنه: «هذا ما قضى عليه محمد رسول الله» فلما أَبَوا ذلك، قال صلى الله عليه وسلم لعليّ: «امح رسول الله، واكتب: محمد بن عبد الله»، فقال: والله لا أمحوك أبداً، فأخذ صلى الله عليه وسلم الصحيفة وكتب ما أرادوا. قيل: كتب بيده معجزةً، وقيل: أَمَرَ من كتب، وهو الأصح.
{وإلزمهم كلمةَ التقوى} شهادة لا إله إلا الله وقيل: بسم الله الرحمن الرحيم، وقيل: محمد رسول الله، وقيل: الوفاء بالعهد، والثابت عليه. وإضافتها إلى التقوى؛ لأنها سببها وأساسها، وقيل: كلمة أهل التقوى. {وكانوا أحقَّ بها} أي: متصفين بمزيد استحقاق بها، على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقاً، أو: أحق بها من غيرهم من سائر الأمم {و} كانوا أيضاً {أهلها} المتأهلون لها بتأهيل الله إياهم. قال القشيري: كلمة التقوى هي التوحيد عن قلبٍ صادق، وأن يكون مع الكلمة الاتقاءُ الشرْك، وكانوا أحق بها في سابق حكمه، وقديم علمه، وهذا إلزام إكرام ولطف، لا إلزام إكراهٍ وعنف، وإلزامُ بر، لا إلزام جبر. اهـ.
{وكان الله بكل شيء عليماً} فيجري الأمور على مساقها، فيسوق كلاًّ إلى ما يستحقه.
الإشارة: لا يصل العبد إلى مولاه حتى تكون نفسه أرضية، وروحه سماوية، يدور مع الحق أينما دار، ويخضع للحق أينما ظهر، ولأهله أينما ظهروا، لم تبقَ فيه حَميّة ولا أَنفة، بل يكون كالأرض يطأها البار والفاجر، ولا تميز بينهما، وأما مَن فيه حمية الجاهلية، فهو من أهل الخذلان، وأما أهل العناية، فأشار إليهم بقوله: {فأنزل الله سكينته على رسوله} فكان متواضعاً سهلاً ليناً، كما قال تعالى: {وَإِنكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وعلى المؤمنين فأخبر عنهم بقوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية، و {ألزمهم كلمة التقوى}، لا إله إلا الله لأنها تهذِّب الأخلاق، وتُخرج ما في القلب من الأمراض والنفاق؛ لأن النفي: تنزيه وتخلية، والإثبات: نور وتحلية، فلا يزال النفي يخرج مِنَ القلب ما فيه هي الظلمة والمساوئ، حتى يتطهّر ويتصف بكمال المحاسن.
قال في نوادر الأصول، لمّا تكلم على {وألزمهم كلمة التقوى}: هو لا إله إلا الله، وجه تسميتها بذلك: أنه اتقى بها ونفى ما أحدث من الشرك، حميةً للتوحيد وعصبيةً وغيرةً، اقتضاها نورُ التوحيد والمحبة، فنفى القلبُ كلَّ رب ادعى العبادُ ربوبيته، وولِهت قلوبهم إليه، فابتدأ هذا القلب- الذي وصفنا- بالنفي لأرباب الأرض، ثم سَما عالياً حتى انتهى إلى الرب الأعلى، فوقف عنده، وتذلّل وخشع له، واطمأن وولِه إليه. وقال لنبيه: {سَبْحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] أي: إن هذه أرباب متفرقون، والرب الله الواحد القهار، فهداه إلى الرب الأعلى، وقال: {وَأنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [النجم: 42]. ثم قال: ألزم قلوبَهم هذه الكلمة بنور المحبة، كما قال: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُم} [الحجرات: 7]، فبحلاوة الحب، وزينة البهاء، صارت الكلمة لازمةً لقلوبهم.
وأما قوله: {وكانوا أحق بها وأهلها} فإنما صاروا كذلك؛ لأن الله كان ولا شيء، فخلق المقادير، وخلق الخلق في ظلمة، ثم رشّ عليهم من نوره، فمَن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومَن أخطأه ضلّ، فقد علم مَن يخطئه ممن يصيبه. ثم ذكر أحاديث، من ذلك: حديث ابن عمرو: «إن الله خلق خلقه، ثم جعلهم في ظلمة، ثم أخذ من نوره ما شاء، فألقاه عليهم، فأصاب النور مَن شاء أن يُصيبه، وأخطأ مَن شاء أن يخطئه...» الحديث. ثم قال بعد كلام طويل: ثم لمّا نفخ الروح في آدم أخرج نَسَمَ بنيه، أهل اليمين، من كتفه الأيمن في صفاء وتلألؤ، وأصحاب الشمال كالحمَّة سُود من كتفه الأيسر، والسابقون أمام الفريقين، المقربون، وهم الرسل والأنبياء والأولياء، فقرّبهم كلهم، وأخذ عليهم ميثاق على الإقرار بالعبودية، وأشهدهم على أنفسهم، وشهد عليهم بذلك. ثم ردّهم إلى الأصلاب ليخرجهم تناسلاً إلى الأرحام. اهـ.
وقال الجنيد رضي الله عنه في قوله: {وكانوا أحقَّ بها وأهلَها}: مَن أدركه عناية السبق في الأزل جرى عليه عنوان المواصلة، وهو أحق بها، لِما سبق إليه من كرامة الأزل. اهـ. والحاصل: أنهم أحق بها بالسبق بالاصطفائية، وبقيت نعوتها وأنوارها في قلوبهم، دون الذي حجبهم الله عن رؤية نورها. قاله في الحاشية.

1 | 2 | 3 | 4